تَنَبَّه فليس كلُّ كلام موزونًا
دعوات التجديد و التطوير وتحريك الفكر من الجمود إلى الفاعلية لا يمكن أن يصدقها المثقف الواعي إلا إذا تجاوزت عالم المفاهيم -فضلاً عن عالم الألفاظ والكلمات الرنانة والجوفاء- وصار لها تجسد واقعي يستند إلى علم وحكمة ودراية، فالتجديد ليس حروفًا ملفوظة أو مكتوبة تكوّن لفظة، أو مفهومًا قابعًا في المخيِّلة ولا يتجاوزها إلا إلى منطقة الأمل والرجاء، و إنما هو مشروع حياة العباقرة، وهدف ذوي الهمم العالية من الأذكياء النابهين في جميع حقول المعرفة بما في ذلك معارف الدين والشريعة، وإن الإنسان ليتملكه اليأس عندما يجد ضبابية مُضلة تسيطر على تصورات بعض الكتّاب حول مفهوم التجديد، فيتصورون أنه يوازي مفهوم مخالفة السائد، ولو كان السائد حقيقة مبرهنة أو كانت المخالفة لا تعتمد طريقة التفكير القويمة في شيء، اليوم أرسل إليَّ أحد الأصدقاء مقالة لكاتب يشكك في روايات النص على إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام) والتي هي متواترة، وفي تشكيكه تناول رواية ينقل فيها إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق (عليه السلام) النص على إمامة الكاظم (عليه السلام) من بعده لاشتمالها على أسماء الأئمة (عليهم السلام)، وما ذكره في تشكيكه هو أن إسحاق كان فطحيًا اعتقد بإمامة عبد الله الأفطح بعد الصادق (عليه السلام) فكيف يروي رواية تخالف معتقده وتجعله فاسقًا فاجرًا أمام الناس!
و بقطع النظر عن شخصية إسحاق، هل هي متحدة أو متعددة وهل هي مؤمنة أو فطحية، وهل من المحتمل أن يروي إسحاق الرواية قبل انحرافه أولا، فإن هناك عدة أمور لا بُدَّ من التنبه إليها :
- الأمر الأول: إن الإنسان قد يجحد ما تيقن به، ويستكبر على الآيات والبينات، ولا يعمل وفق قطعه ويقينه، يقول تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )، ويقول: ( ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ )، ويقول: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ )، ويقول: ( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا )، فهل القرآن يبين أمرًا بعيدَ الوقوع لا يمكن تصديقه!
- الأمر الثاني: إن إبليس سمع الله يأمره بالسجود ولَم يسجد وهو يعلم بأن الله خالقه ومالك أمره، وإلى الآن هو مصر على غيِّه وعصيانه، وتعريض نفسه لمراتب أعلى من غضب الله وعذابه، وقد شاهد مكر الله بالظالمين كما شاهد بينات الأنبياء والمرسلين، فهل القرآن في إخباره عن إبليس يحدث بأساطير لا تقبل التصديق! و بالتالي يتوجب أن نرفض الآيات التي تتحدث عن إبليس وأمثاله من الأمم المكذبة لبراهين أنبيائها!
- الأمر الثالث: يظهر أن الكاتب يفكر بطريقة مقلوبة، فإن كون الرواية على خلاف مذهب الراوي من أمارات صدقها؛ لأن العاقل السوي إذا كان سيضع و يكذب، فهو يفعل ذلك لمصلحته أما أن يفعل على خلاف مصلحته، فهذا بعيد جدًا، ولهذا قال الشاعر العربي: ( والحق ما شهدت به الأعداء )، ومن هذه الجهة يرى المحققون أن روايات المخالفين الدالة على صحة عقائدنا وبطلان عقيدتهم، محفوفة بما يفيد الوثوق بها، فروايات النص على إمامة الكاظم (عليه السلام) إن كان في سندها بعض من لا يعتقد بإمامة الكاظم (عليه السلام) فهذا لا يضعفها، بل يسرع حصول اليقين بصدقها؛ لأن هذا عامل كيفي ينضم إلى عاملها الكمي.
تعليقات
إرسال تعليق