معاناة الرعية مع مرتدي لِباس الدعوة إلى البر

المهندس محمد القروص

قال الله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } [ البقرة: 44 ]

لا يكاد يخفى عن صغيرنا -فضلا عن كبيرنا- أهمية الدور الذي يلعبه الوعاظ في بناء المجتمع، فكل من تولى مسؤولية الدعوة إلى البر -كالتربية، والإرشاد الديني- ، طبع -بدوره- بصمته على الطرف الآخر: إما في طريق الهداية، وإما الضلال. ولمّا كان الدين هو الأشد اهتمامًا من قبل الناس -لأثره في تحديد سعادتهم الدنيوية والأخروية-، فإنّ كل من يمسك بزمام الدعوة الدينية، كان الأشد تأثيرًا من غيره من الوعاظ.


لكن المشكلة -والتي نبهت واستشكلت عليها الآية الكريمة- أن يكون الواعظ الديني، يأمر الناس بالبر وهو غير ملتزم به! حيث استنكرت على علماء اليهود قيامهم بذلك! وهذا مما قد يصد الناس عن طريق الهدى، ويستغويهم ناحية الضلال! لذلك هنا ركزنا حديثنا على الواعظ الديني، وأود التنبيه بدايةً على أن الكلام لا يُقصد به الجميع وإنما جملة منهم، والذي نريده هنا هو: بيان جملة من السلوكيات التي يصدق عليها أنها أمر الناس بالبر ونسيان النفس عنها والتي تريبنا كعوام من اتباع كل من حمل على عاتقه الدعوة إلى البر -لعل بذلك يصل صوتنا إلى العلماء وطلبة العلم فتسد الثغرات التي تمنعنا من الاقتداء بالواعظين- وهي مقسمة على مجالين: أحدهما يظهر في حينه، بينما الآخر في غير حينه، وهما: مجال الدعوة والإرشاد، والعمل بالأفكار المطروحة.

 مجال الدعوة والإرشاد: 

وأقصد بهذا ما قد يصدر من الواعظ -كالخطيب- من سلوكيات في أمره للمعروف ونهيه عن المنكر. والأمر باختصار يتعلق بأي سلوك يتنافى مع الأدب عند الأمر بالمعروف والنهي؛ فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو في مقام أمر الناس بالبر، بينما أي سوء أدب هو نسيان للنفس في ذلك؛ فإن الأولى به أن يتعلم ويلتزم بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل القيام به. وسوء الأدب مقسم إلى نوعين: مطلق ونسبي.

- سوء الأدب المطلق: 

أن يصدر من الواعظ سلوك يتنافى مع الأدب بشكل مطلق أي: غير مقيد بظرف معين. ويشمل ذلك: الإهانة والسباب سواء للموعوظين، أو لغيرهم. ومما يؤسف في زمانا هذا، أن تجد شخصيات دينية تظهر في الإعلام وتسب تستنقص من مراجعنا العظام بشكل صريح وبكلام لا يمت للبحث أو النقد العلميين بصلة؛ فهذا يظهر في قناة فضائية، وذاك على اليوتيوب، وثالث في خطبة جمعة ثم تعرض على اليوتيوب، وهكذا!

إخواني وأخواتي، لو أن أحدنا يجلس في بيته يشعر بالأمان -والله يحفظكم- ثم ينظر لقناة إعلامية، فيجد الخطيب فيها يصرح بسب أحد عزيز لديه كصديقه؛ فما ردة فعله؟ بالتأكيد سيضطرب، فإما أن يشك في صديقه، أو يتخذ موقفًا دفاعيًا عنه؛ أليس كذلك؟! فكيف بالذي يتعرض لعلماء لهم مكانتهم في نفوس الملايين من المؤمنين، فماذا سيحصل؟ لا شكَّ بصدور ردود فعل سلبية مختلفة، من قبيل: الغيرة، أو السخط والاستخفاف من مكانة ذلك العالم، وغير ذلك. وبغض النظر عن ردة الفعل ما هي؟ فإن النتيجة حتمًا خلق فتنة بالمجتمع -كفانا الله شر أولئك-.

ورد في تفسير الميزان تفسير قوله تعالى: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم } [ الإسراء: 53 ]: "التي هي أحسن" أي الكلمة التي هي أحسن، وهو اشتمالها على الأدب الجميل وتعريها عن الخشونة والشتم وسوء الأمر.

- سوء الأدب النسبي: 

وهو القيام بتصرفات ليست حرام بشكل مطلق، وإنما لا تليق بمقام معين. لقد غضب الله تعالى على نبينا آدم – عليه السلام – تركه للأولى حيث ورد في تفسير الأمثل للآية: { وعصى آدم ربه فغوى } [ طه: 121 ] أن المعصية التي أتى بها آدم نسبية ليست مطلقة لمخالفته نهي إرشادي، لكن يا ترى لماذا استحق تلك العقوبة فقط لذلك؟ ورد في نفس التفسير للآيات [ 19 – 22 ] من سورة الأعراف: "ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه ". من هنا ندرك أن الواعظ الديني قد يأتي بسلوك مقبول في بعض المجالات، لكن غير لائق بمجال الدعوة والإرشاد.


يعني تصوروا -مثلاً- أن أحدنا كان في المسجد ووجد -أثناء خطبة جمعة- الخطيب في كلامه يفتخر بأكله للجزر وشرب عصير التفاح؛ فكيف يكون شعورك حينها؟! بالتأكيد يتعجب! وقد يستسخف من مقام ذلك الخطيب، فلا يأخذ منه الموعظة -وإن صدق في قوله- . ويزداد الأمر سوءًا لو تكرر ذلك من أكثر من خطيب، حينئذ سيزهد في الناس في طبقة الوعاظ آخذين عنهم انطباعًا سلبيًا. وليس بغريب؛ إذ أن من يأمر الناس بالبر هو أولاهم معرفة بحرمة المسجد ومكانة خطبة الجمعة في الدين. وإن لم يراعِها، فإما جاهل أو مستخف، وكلا الأمرَين لا يليقان بمن حمل على عاتقه تلك المسؤولية العظيمة.

مجال العمل بالأفكار المطروحة: 

قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف: 2 و 3 ] جاء في تفسير الأمثل: "إن من السمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التام بين أقواله وأعماله وكلما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل، فإنه يبتعد عن حقيقة الإيمان"، وأيضًا جاء في نفس التفسير: "ونقرأ في رسالة الإمام علي (ع) لمالك الأشتر أنه قال: (( إياك... أن تعدهم فتتبع موعد بخلفك... والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } )). إن من يطرح فكرة ويأمر الناس بالعمل بها، لهو الأولى أن يأمر نفسه بها. 

لذلك يفترض بالواعظ هنا التنبه لهذا، فربما أسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخلو من أي سوء أدب، لكنه في شؤون حياته العامة يأتي بما ينافي ما أمر به! وهذا نسيان للنفس، فلو كان يأمر نفسه أولاً لكان أول الناس التزامًا بما يأمر. 

ورب سائل يسأل: ماذا لو كانت سيرته بإجمالها حسنة، إلا فترات قليلة تزوغ نفسه ثم يتوب ويستغفر؛ إذ ليس فينا من لا يذنب؟ لاشك بأن الإنسان بطبعه غير معصوم؛ فليس مستبعدًا عنه ما ينافي العصمة كالسهو والنسيان، لكن الكلام هنا حول الصورة العامة للفرد، هل هي العمل بالأفكار المطروحة؟ أم عدم العمل بها؟ أم أنه متقلب تارة يعمل وتارة لا يعمل؟! والنظر في الصورة العامة يتضمن أمور عدة منها: حجم الذنب ومدى تكراره.



وفي هذا المجال لدينا صورة الأخرى أيضًا، وهي: أنه بالإضافة إلى عدم عمله بما يأمر، فإنه يزكي نفسه! يزكيها بمخلف العبارات نحو: أنا أفعل ذلك لوجه الله لا غير، أنا أتقبل النقد، أنا عشقي وجنوني وهمي خدمة أبي عبد الله الحسين -عليه السلام-، وغير ذلك. لكن في المواقف الفعلية تظهر للناس صورة أخرى تتناقض مع هذه! يروى عن الإمام الحسين -عليه السلام- أنه قال: " إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون " يا ترى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم إذا محصوا بالبلاء، كم فيهم من يثبت على الحق؟!




وهذه الصورة أشد خطرًا؛ لأن فيها تأكيدًا وتضليلاً. الواعظ هنا يؤكد قيامه بأعمال البر التي يدعو لها؛ وبهذا الناس تتوقع أكثر منه الالتزام؛ فحينما يصطدم قوله بفعله فإن تلك الصدمة أشد وقعًا في النفس! وهو هنا يضلل الناس بذلك، فكأنما لسان حاله يقول: "إن كنت تبحث عن طريق البر، فها أنا ذا أمامك أسلكه، فاتبعني"، لكنه في الحقيقة يغويه بدل أن يرشده؛ فيغشه ويخدعه! وخير له هنا -بدلاً من تزكية نفسه– أن يسأل الله -جل وعلا- له وللمؤمنين والتوفيق للهداية والعمل بما فيه رضا الله تعالى.



ورد أيضًا في تفسير الأمثل لنفس الآية المذكورة: "إن من أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو تزعزع الثقة بين صفوفها وعدم الاطمئنان فيما بينها، وأمارة ذلك هي الأقوال البعيدة عن الالتزام والادعاءات الفارغة من المحتوى العملي، وأداة ذلك هم الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون، وبذلك فهم يشكلون بؤرة مخيبة في قبال حالات الانسجام والوحدة والتماسك أمام المشاكل التي تواجههم، بل يشكلون عاملاً للضعف والتباغض وعدم الاحترام وتضييع الامكانات وسقوط هيبتهم أمام الأعداء".



إن هذه المواطن -المندرجة تحت هذين المجالين- تبعث على الاستخفاف بطبقة الوعاظ عمومًا، والأشد من ذلك الاستخفاف بحدود الله، كما تسلب الطمأنينة من الباحثين عن الوعظ الديني في العثور على واعظ أمين يمكن الوثوق به، واعظ يليق به لباس الأمر بالبر. كذلك تفتح بابًا للشيطان وأوليائه في النخر في المذهب وزعزعة نفوس أبنائه، تفتح الباب لهم من خلال شواهد مثبتة واقعيًا؛ لذا ينبغي لنا التنبه لنا التنبه لذلك.


سلام الله على أمير المؤمنين، كان أول المؤمنين اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وآله- يأمرهم بالبر ويسبقهم للعمل به. وله مواقف عديدة ظهرت للناس بعد أن رجعت له الخلافة؛ ليت أولئك الوعاظ ينظروا في سيرته ويحذوا حذوه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"... أعيادكم كأيامكم" أورد عن الأمير (ع)؟

معنى قوله (ع): كونوا أحرار

هل ورد أن "أبا صالح" كنيةٌ للمهدي عج؟